فصل: تفسير الآيات (14- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{زعم الذين كفرُواْ أن لّن يُبْعثُواْ}
الزعمُ ادعاءُ العلمِ يتعدى إلى مفعولينِ وقد قام مقامهُما أن المخففةُ مع ما في حيزِها، والمرادُ بالموصولِ كفارُ مكة أي زعمُوا أنّ الشأن لن يبعثُوا بعد موتِهِم أبدا {قُلْ} ردا عليهِم وإبطالا لزعمِهِم بإثباتِ ما نفوه {بلى} أي تُبعثون وقوله: {وربّى لتُبْعثُنّ ثُمّ لتُنبّؤُنّ بِما عمِلْتُمْ} أي لتُحاسبُنّ ولتُجزوُنّ بأعمالِكُم، جملة مستقلةٌ داخلةٌ تحت الأمرِ واردةٌ لتأكيدِ ما أفادهُ كلمةُ بلى من إثباتِ البعثِ وبيانِ تحقيقِ أمرٍ آخر متفرعٍ عليهِ منوطٍ به ففيهِ تأكيدٌ لتحقيقِ البعثِ بوجهينِ {وذلِك} أي ما ذُكِر من البعثِ والجزاءِ {على الله يسِيرٌ} لتحققِ القدرةِ التامةِ وقبولِ المادةِ.
الفاءُ في قوله تعالى: {فئامِنُواْ} فصيحةٌ مفصحةٌ عن شرطٍ قد حُذف ثقة بغايةِ ظهورِهِ أي إذا كان الأمرُ كذلك فآمنُوا {بالله ورسُولِهِ} محمدٍ صلى الله عليه وسلم {والنور الذي أنزلْنا} وهُو القرآن فإنّه بإعجازِهِ بيِّنٌ بنفسِهِ مبيِّنٌ لغيرِهِ كما أنّ النور كذلك. والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبرازِ كمالِ العنايةِ بأمرِ الإنزالِ {والله بِما تعْملُون} من الامتثالِ بالأمرِ وعدمِهِ {خبِيرٌ} فمجازيكُم عليهِ. والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لما قبلهُ من الأمرِ موجبٌ للامتثالِ به بالوعدِ والوعيدِ، والالتفاتُ إلى الإسمِ الجليلِ لتربيةِ المهابةِ وتأكيدِ استقلالِ الجملة {يوْم يجْمعُكُمْ} ظرفٌ لتنبؤنّ وقيل لخبير لما فيهِ من معْنى الوعيدِ كأنّه قيل والله مجازيكُم ومعاقبكُم يوم يجمعُكُم أو مفعولٌ لأذكُرْ وقرئ {نجْمعكُم} بنونِ العظمةِ {لِيوْمِ الجمع} ليومٍ يُجمعُ فيهِ الأولون والآخرون أي لأجلِ ما فيهِ من الحسابِ والجزاءِ {ذلِك يوْمُ التغابن} أي يومُ غبْنِ بعضِ الناسِ بعضا بنزولِ السعداءِ منازل الأشقياءِ لو كانوا سعداء وبالعكسِ وفي الحديث: «ما منْ عبدٍ يدخلُ الجنة إلا أُري مقعدهُ من النارِ لو أساء ليزداد شُكرا وما من عبدٍ يدخلُ النار إلا أري مقعدهُ من الجنةِ لو أحسن ليزداد حسرة» وتخصيصُ التغابنِ بذلك اليومِ للإيذانِ بأن التغابن في الحقيقةِ هو الذي يقعُ فيهِ لا ما يقعُ في أمورِ الدُّنيا.
{ومن يُؤْمِن بالله ويعْملْ صالحا} أي عملا صالحا {يكْفُرْ} أي الله عزّ وجلّ وقرئ بنونِ العظمةِ {عنْهُ سيئاته} يوم القيامةِ {ويُدْخِلْهُ جنات تجْرِى مِن تحْتِها الأنهار خالدين فِيها أبدا} وقرئ {نُدخله} بالنونِ {ذلك} أي ما ذُكِر من تكفيرِ السيئاتِ وإدخالِ الجناتِ {الفوز العظيم} الذي لا فوز وراءهُ لانطوائِهِ على النجاةِ من أعظمِ الهلكاتِ والظفرِ بأجلِّ الطلباتِ {والذين كفرُواْ وكذّبُواْ بآياتنا أُوْلئِك أصحاب النار خالدين فِيها وبِئْس المصير} أي النارُ كأنّ هاتينِ الآيتينِ الكريمتينِ بيانٌ لكيفيةِ التغابنِ {ما أصاب مِن مُّصِيبةٍ} من المصائبِ الدنيويةِ {إِلاّ بِإِذْنِ الله} أي بتقديرِهِ وإرادتِهِ كأنّها بذاتِها متوجهةٌ إلى الإنسانِ متوقفةٌ على إذنِهِ تعالى: {ومن يُؤْمِن بالله يهْدِ قلْبهُ} عند إصابتِها للثباتِ والاسترجاعِ وقيل يهدِ قلبهُ حتّى يعلم أنّ ما أصابهُ لم يكُنْ ليخطئهُ وما أخطأهُ لم يكُن ليصيبهُ وقيل يهدِ قلبهُ أي يلطفُ بهِ ويشرحُهُ لازديادِ الطاعةِ والخيرِ. وقرئ {يُهْد قلبُهُ} على البناءِ للمفعولِ ورفعِ {قلبهُ} ، وقرئ بنصبِه على نهجِ سفِه نفسهُ وقرئ بالهمزةِ أي يسكُن {والله بِكُلّ شيْء} من الأشياء التي من جُملتِها القلوبُ وأحوالِها {علِيمٌ} فيعلمُ إيمان المؤمنِ ويهدي قلبهُ إلى ما ذُكِر.
{وأطِيعُواْ الله وأطِيعُواْ الرسول}
كرر الأمر للتأكيدِ والإيذانِ بالفرقِ بين الطاعتين في الكيفيةِ وتوضيحِ موردِ التولِّي في قوله تعالى: {فإِن تولّيْتُمْ} أي عن إطاعةِ الرسولِ، وقوله تعالى: {فإِنّما على رسُولِنا البلاغ المبين} تعليلٌ للجوابِ المحذوفِ أي فلا بأس عليهِ إذْ ما عليهِ إلا التبليغُ المبينُ وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليهِ، وإظهارُ الرسولِ مضافا إلى نونِ العظمةِ في مقامِ إضمارِهِ لتشريفِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ والإشعارُ بمدارِ الحكمِ الذي هو كونُ وظيفتِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ محض البلاغِ ولزيادةِ تشنيعِ التولِّي عنْهُ {الله لا إله إِلاّ هُو} جملة من مبتدأٍ وخبرٍ أي هو المستحقُّ للمعبوديةِ لا غيرُهُ، وفي إضمارِ خبرِ لا مثل في الوجودِ أو يصح أن يوجد خلافٌ للنجاةِ معروفٌ {وعلى الله} أي عليهِ تعالى خاصّة دون غيرِهِ لا استقلالا ولا اشتراكا {فلْيتوكّلِ المؤمنون} وإظهارُ الجلالةِ في موقعِ الإضمارِ للإشعارِ بعلةِ التوكلِ والأمرِ بهِ فإن الألوهية مقتضيةٌ للتبتلِ إليهِ تعالى بالكليةِ وقطعِ التعلقِ عما سواهُ بالمرةِ. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {زعم الذين كفرُواْ أن لّن يُبْعثُواْ}
الزعم: هو القول بالظنّ، ويطلق على الكذب.
قال شريح: لكل شيء كنية، وكنية الكذب زعموا، و{أن لّن يُبْعثُواْ} قائم مقام مفعول زعم، و{أن} هي المخففة من الثقيلة لا المصدرية لئلا يدخل ناصب على ناصب، والمراد بالكفار: كفار العرب؛ والمعنى: زعم كفار العرب أن الشأن لن يبعثوا أبدا.
ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يردّ عليهم ويبطل زعمهم فقال: {قُلْ بلى وربّى لتُبْعثُنّ ثُمّ لتُنبّؤُنّ} بل هي التي لإيجاب النفي، فالمعنى: بلى تبعثون.
ثم أقسم على ذلك، وجواب القسم: {لتبعثنّ} أي: لتخرجنّ من قبوركم، {لتنبؤن بِما عمِلْتُمْ} أي: لتخبرنّ بذلك إقامة للحجة عليكم، ثم تجزون به {ذلِك} البعث والجزاء {على الله يسِيرٌ} إذ الإعادة أيسر من الابتداء {فآمنوا بالله ورسوله} الفاء هي الفصيحة الدالة على شرط مقدّر أي: إذا كان الأمر هكذا، فصدّقوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم {والنور الذي أنزلْنا} وهو القرآن؛ لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلال {والله بِما تعْملُون خبِيرٌ} لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم، فهو مجازيكم على ذلك {يوْم يجْمعُكُمْ لِيوْمِ الجمع} العامل في الظرف: {لتنبؤن}، قاله النحاس.
وقال غيره: العامل فيه خبير، وقيل: العامل فيه محذوف هو اذكر.
وقال أبو البقاء: العامل فيه ما دلّ عليه الكلام، أي: تتفاوتون يوم يجمعكم.
قرأ الجمهور: {يجمعكم} بفتح الياء وضم العين، وروي عن أبي عمرو إسكانها، ولا وجه لذلك إلاّ التخفيف، وإن لم يكن هذا موضعا له، كما قرئ في {وما يُشْعِرُكُمْ} [الأنعام: 109] بسكون الراء، وكقول الشاعر:
فاليوم أشرب غير مستحقب ** إثما من الله ولا واغل

بإسكان باء أشرب، وقرأ زيد بن عليّ، والشعبي، ويعقوب، ونصر، وابن أبي إسحاق، والجحدري: {نجمعكم} بالنون، ومعنى {لِيوْمِ الجمع}: ليوم القيامة، فإنه يجمع فيه أهل المحشر للجزاء، ويجمع فيه بين كل عامل وعمله، وبين كل نبيّ وأمته، وبين كل مظلوم وظالمه {ذلِك يوْمُ التغابن} يعني: أن يوم القيامة هو يوم التغابن، وذلك أنه يغبن فيه بعض أهل المحشر بعضا، فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، ويغبن فيه أهل الإيمان أهل الكفر، وأهل الطاعة أهل المعصية، ولا غبن أعظم من غبن أهل الجنة أهل النار عند دخول هؤلاء الجنة وهؤلاء النار، فنزلوا منازلهم التي كانوا سينزلونها لو لم يفعلوا ما يوجب النار، فكأن أهل النار استبدلوا الخير بالشرّ، والجيد بالرديء، والنعيم بالعذاب، وأهل الجنة على العكس من ذلك.
يقال: غبنت فلانا إذا بايعته، أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة، كذا قال المفسرون، فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة {ومن يُؤْمِن بالله ويعْملْ صالحا نكْفُر عنْهُ سيئاته} أي: من وقع منه التصديق مع العمل الصالح استحق تكفير سيئاته، قرأ الجمهور: {يكفر} و{يدخله} بالتحتية، وقرأ نافع، وابن عامر بالنون فيهما، وانتصاب {خالدين فِيها أبدا} على أنها حال مقدّرة، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما ذكر من التكفير والإدخال، وهو مبتدأ، وخبره {الفوز العظيم} أي: الظفر الذي لا يساويه ظفر.
{والذين كفرُواْ وكذّبُواْ بئاياتنا أُوْلئِك أصحاب النار خالدين فِيها وبِئْس المصير} المراد بالآيات: إما التنزيلية أو ما هو أعم منها.
ذكر سبحانه حال السعداء، وحال الأشقياء هاهنا لبيان ما تقدم من التغابن، وأنه سيكون بسبب التكفير، وإدخال الجنة للطائفة الأولى، وبسبب إدخال الطائفة الثانية النار، وخلودهم فيها.
{ما أصاب مِن مُّصِيبةٍ إِلاّ بِإِذْنِ الله} أي: ما أصاب كل أحد من مصيبة من المصائب إلاّ بإذن الله، أي: بقضائه وقدره، قال الفراء: إلاّ بإذن الله، أي: بأمر الله، وقيل: إلاّ بعلم الله.
قيل: وسبب نزولها أن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله عن المصائب في الدنيا {ومن يُؤْمِن بالله يهْدِ قلْبهُ} أي: من يصدّق ويعلم أنه لا يصيبه إلاّ ما قدّره الله عليه يهد قلبه للصبر والرضا بالقضاء.
قال مقاتل بن حيان: يهد قلبه عند المصيبة، فيعلم أنها من الله، فيسلم لقضائه ويسترجع.
وقال سعيد بن جبير: يهد قلبه عند المصيبة، فيقول: {إِنّا لله وإِنّا إِليْهِ راجعون} [البقرة: 156] وقال الكلبي: هو إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر.
قرأ الجمهور: {يهد} بفتح الياء، وكسر الدال، أي: يهده الله، وقرأ قتادة، والسلمي، والضحاك، وأبو عبد الرحمن بضم الياء، وفتح الدال على البناء للمفعول، وقرأ طلحة بن مصرّف، والأعرج، وسعيد بن جبير، وابن هرمز، والأزرق: {نهد} بالنون، وقرأ مالك بن دينار، وعمرو بن دينار، وعكرمة: {يهدأ} بهمزة ساكنة، ورفع {قلبه} ، أي: يطمئن ويسكن {والله بِكُلّ شيْء علِيمٌ} أي: بليغ العلم لا تخفى عليه من ذلك خافية.
{وأطِيعُواْ الله وأطِيعُواْ الرسول} أي: هوّنوا على أنفسكم المصائب، واشتغلوا بطاعة الله وطاعة رسوله {فإِن تولّيْتُمْ} أي: أعرضتم عن الطاعة {فإِنّما على رسُولِنا البلاغ المبين} ليس عليه غير ذلك وقد فعل، وجواب الشرط محذوف، والتقدير فلا بأس على الرسول، وجملة: {فإِنّما على رسُولِنا} تعليل للجواب المحذوف، ثم أرشد إلى التوحيد والتوكل فقال: {الله لا إله إِلاّ هُو} أي: هو المستحق للعبودية دون غيره، فوحدوه ولا تشركوا به {وعلى الله فلْيتوكّلِ المؤمنون} أي: يفوّضوا أمورهم إليه، ويعتمدوا عليه لا على غيره.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والبيهقي، وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قيل له: ما سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: في زعموا؟ قال: سمعته يقول: «بئس مطية الرجل».
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عنه أنه كره زعموا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: يوم التغابن من أسماء يوم القيامة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عنه في قوله: {ذلِك يوْمُ التغابن} قال: غبن أهل الجنة أهل النار، وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود في قوله: {ما أصاب مِن مُّصِيبةٍ} قال: هي المصيبات تصيب الرجل، فيعلم أنها من عند الله، فيسلم لها ويرضى.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {يهْدِ قلْبهُ} قال: يعني يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. اهـ.

.تفسير الآيات (14- 18):

قوله تعالى: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لكُمْ فاحْذرُوهُمْ وإِنْ تعْفُوا وتصْفحُوا وتغْفِرُوا فإِنّ الله غفُورٌ رحِيمٌ (14) إِنّما أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ والله عِنْدهُ أجْرٌ عظِيمٌ (15) فاتّقُوا الله ما اسْتطعْتُمْ واسْمعُوا وأطِيعُوا وأنْفِقُوا خيْرا لِأنْفُسِكُمْ ومنْ يُوق شُحّ نفْسِهِ فأُولئِك هُمُ الْمُفْلِحُون (16) إِنْ تُقْرِضُوا الله قرْضا حسنا يُضاعِفْهُ لكُمْ ويغْفِرْ لكُمْ والله شكُورٌ حلِيمٌ (17) عالِمُ الْغيْبِ والشّهادةِ الْعزِيزُ الْحكِيمُ (18)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانت أوامر الدين تارة تكون باعتبار الأمر الديني من سائر الطاعات المحضة، وتارة باعتبار الأمر التكويني وهو ما كان بواسطة مال أو أهل أو ولد، أتم سبحانه القسم الأول في الآيتين الماضيتين، شرع في الأمر الثاني لأنه قد ينشأ عنه فتنة في الدين وقد ينشأ عنه فتة في الدنيا، ولما كانت الفتنة بالإقبال عليه والإعراض عنه أعظم الفتن، لأنها تفرق بين المرء وزوجه وبين المرء وابنه وتذهل الخليل عن خليله- كما شوهد ذلك في بدء الإسلام، وكان أعظم ذلك في الردة، وكان قد تقدم النهي عن إلهاء الأموال والأولاد، وكان النهي عن ذلك في الأولاد نهيا عنه في الأزواج بطريق الأولى، فلذلك اقتصر عليهم دون الأزواج، وكان المأمور بالتوكل ربما رأى أن تسليم قياده لكل أحد لا يقدح في التوكل، أشار إلى أن بناء هذه الدار على الأسباب مانع من ذلك فأمر بنحو «اعقلها وتوكل» «واحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» الحديث، فقال جوابا عن ذلك لمن يحتاج إلى السؤال عن مثله مبينا للأوامر بالاعتبار للامتحان التكويني وإن كان أولى الناس ببذل الجهد في تأديبه وتقويمه وتهذيبه أقرب الأقارب وألصق الناس بالإنسان وهو كالعلة لآخر (المنافقون): {يا أيها الذين آمنوا} ولما كان الأزواج أقرب عداوة من الأولاد قدمهن، فقال مؤكدا لمن يستبعد ذلك: {إن من أزواجكم} وإن أظهرن غاية المودة {وأولادكم} وإن أظهروا أيضا غاية الشفقة والحنان {عدوا لكم} أي لشغلهم لكم عن الدين أو لغير ذلك من جمع المال وتحصيل الجاه لأجلهم والتهاون بالنهي عن المنكر فإن الولد مجبنة وغير ذلك، قال أبو حيان رحمه الله تعالى: ولا أعدى على الرجل من زوجه وولده إذا كانا عدوين وذلك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبإذهاب ماله- كما هو معروف- وعرضه، وأما في الآخرة فيما يسعى في اكتسابه من الحرام لأجلهم وبما يكسبانه منه بسبب جاهه.
فالرجل من رأى ذلك نعمة من الله فجعله معينا له على طاعته لا قاطعا ومعوقا عما يرضيه بأن يلتهي بمحبته وعداوته وبغضته.
ولما أخبر عن العداوة، عبر بما قد يفهم الواحد فقط تخفيفا، ولما أمر بالحذر جمع إشارة إلى زيادة التحذير والخوف في كل أحد ولو كان أقرب الأقرباء لأن الحزم سوء الظن كما رواه الطبراني في الأوسط، فسبب عن الإخبار بالعداوة الأمر بالحذر في قوله: {فاحذروهم} أي بأن تتقوا الله في كل أمرهم فتطلبوا في السعي عليهم الكفاف من حله وتقتصروا عليه، ولا يحملنكم حبهم على غير ذلك، وليشتد حذركم منهم بالعمل بما أمر الله حتى في العدل بينهم لئلا يتمكنوا من أذاكم فيعظم بهم الخطب ويكون فاتنا لكم في الدين إما بالردة- والعياذ بالله تعالى- أو بالشغل عن الطاعة أو بالإقحام في المعصية ومخالفة السنة والجماعة.
ولما كان قد يقع ما يؤذي مع الحذر لأنه لا يغني من قدر أو مع الاستسلام، وكان وكل المؤذي إلى الله أولى وأعظم في الاستنصار، قال مرشدا إلى ذلك: {وإن تعفوا} أي توقعوا المجاوزة عن ذنوبهم بعدم العقاب عليها فإنه لا فائدة في ذلك لأن من طبع على شيء لا يرجع، وإنما النافع الحذر الذي أرشد إليه سبحانه لئلا يكون سببا للو المنهي عنه.
ولما كان الرجوع عن الحظوظ صعبا جدا، أكد سبحانه فقال: {وتصفحوا} أي بالإعراض عن المقابلة بالتثريب باللسان {وتغفروا} أي بأن تستروا ذنوبهم سترا تاما شاملا للعين والأثر بالتجاوز بعد ترك العقاب عن العتاب، فلا يكون منكم اشتغال بعداوتهم ولا ما قد يجرها عما ينفع من الطاعة، ولما كان التقدير: يغفر الله لكم، سبب عنه قوله: {فإن الله} أي الجامع لصفات الكمال {غفور} أي بالغ المحو الأعيان الذنوب وآثرها جزاء لكم على غفرانكم لهم وهو جدير بأن يصلحهم لكم بسبب غفرانكم لهم فإنه {رحيم} يزيدكم بعد ذلك الستر الإكرام بالإنعام إن أكرمتموهم، فتخلقوا بأخلاقه سبحانه يزدكم من فضله.
ولما حكم على البعض، كان كأنه قيل: فما حكم سائره؟ فكأن الحكم بذلك يلزم منه الحذر من الكل لكن للتصريح سر كبير في ركون النفس إليه، فقال حاصرا الجميع ضاما إليهم المال الذي به قيام ذلك كله وقدمه لأنه أعظم فتنة: {إنما} وأسقط الجار لأن شيئا من ذلك لا يخلو عن شغل القلب فقال: {أموالكم} أي عامة {وأولادكم} كذلك {فتنة} أي اختبار مميل عن الله لكم وهو أعلم بما في نفوسكم منكم لكن ليظهر في عالم الشهادة من يميله ذلك فيكون عليه نقمة ممن لا يميله فيكون له نعمة، فربما رام الإنسان صلاح ماله وولده فبالغ فأفسد نفسه ثم لا يصلح ذلك ماله ولا ولده، وذلك أنه من شأنه أن يحمل على كسب الحرام ومنع الحق والإيقاع في الإثم، روي عن أبي نعيم في الحلية في ترجمة سفيان الثوري عنه أنه قال: «يؤتى برجل يوم القيامة فيقال له: أكل عياله حسناته» ويكفي فتنة المال قصة ثعلبة بن حاطب أحد من نزل فيه قوله فتنة تعالى: {ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن} [التوبة: 75] وكأنه سبحانه ترك ذكر الأزواج في الفتنة لأن منهم من يكون صلاحا وعونا على الآخرة.
ولما كان التقدير: ففي الاحتراز من فتنهم تعب كبير، لا يفوت به منهم إلى حظ يسير، وكانت النفس عند ترك مشتبهاتها ومحبوباتها قد تنفر، عطف عليه مهونا له بالإشارة إلى كونه فانيا وقد وعد عليه بما لا نسبة له منه مع بقائه قوله: {والله} أي ذو الجلال {عنده} وناهيك بما يكون منه بسبيل جلاله وعظمه {أجر} ولم يكتف سبحانه بدلالة السياق على أن التنوين للتعظيم حتى وصفه بقوله: {عظيم} أي لمن ائتمر بأوامره التي إنما نفعها لصاحبها، فلم يقدم على رضاه مالا ولا ولدا، وذلك الأجر أعظم من منفعتكم بأموالكم وأولادكم على وجه ينقص من الطاعة.
ولما كان التقدير: وعنده عذاب أليم لمن خالف، سبب عنه قوله فذلكة أخرى لما تقدم من السورة كلها: {فاتقوا الله} مظهرا غير مضمر تعظيما للمقام واحترازا من أن يتوهم نوع تقيد فأفهم الإظهار أن المعنى: اجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعلى وقاية من غير نظر إلى حيثية ولا خصوصية بشيء ما، باجتناب نواهيه بعد امتثال أوامره، فإن التقوى إذا انفردت كان المراد بها فعل الأوامر وترك المناهي، وإذا جمعت مع غيرها أريد بها اجتناب النواهي فقط.
ولما كان الأمر إذا نسب إليه سبحانه أعظم من مقالة قائل، فلا يستطيع أحد أن يقدره سبحانه حق قدره، خفف ويسر بقوله: {ما استطعتم} أي ما دمتم في الجملة قادرين مستطيعين، ويتوجه عليكم التكليف في العلميات والعمليات، وابذلوا جهدكم في ذلك في الإيمانيات لما علمتم من ذاته ومرتبته وصفاته تعالى وأفعاله، وغير ذلك من جميع أعمالكم الظاهرة والباطنة، وأعظمه الهجرة والجهاد، فلا يمنعكم الإخلاد إليها ذلك والتقوى فيما وقع من المكروهات بالندم والإقلاع مع العزم على ترك العود، وفيما لم يقع بالاحتراس عن أسبابه، وبذل الإنسان جميع جهده هو الاتقاء حق التقاة فلا نسخ- والله أعلم.
ولما كان إظهار الإسلام فيه مشقة كالأعمال قال: {واسمعوا} أي سماع إذعان وتسليم لما توعظون به ولجميع أوامره {وأطيعوا} أي وصدقوا ذلك الإذعان بمباشرة الأفعال الظاهرة في الإسلاميات من القيام بأمر الله والشفقة على خلق الله في كل أمر ونهي على حسب الطاقة، وحذف المتعلق ليصدق الأمر بكل طاعة من الكل والبعض وكذا في الإنفاق.
ولما كان الإنفاق شديدا أكد أمره بتخصيصه بالذكر فقال: {وأنفقوا} أي أوقعوا الإنفاق كما حد لكم فيما أوجبه أو ندب إليه وإن كان في حق من اطلعتم منها على عداوة، والإنفاق لا يخص نوعا بل يكون ما رزق الله من الذاتي والخارجي.
ولما كان الحامل على الشح ما يخطر في البال من الضرورات التي أعزها ضرورة النفس، رغب فيه بما ينصرف إليه بادئ بدء ويعم جميع ما تقدم فقال: {خيرا} أي يكن ذلك أعظم خير واقع {لأنفسكم} فإن الله يعطي خيرا منه في الدنيا ما يزكي به النفس، ويدخر عليه من الجزاء في الآخرة ما لا يدري كنهه، فلا يغرنكم عاجل شيء من ذلك فإنما هو زخرف وغرور لا طائل تحته.
ولما ذكر ما في الإنفاق من الخير عم في جميع الأوامر فقال: {ومن يوق} بناه للمفعول تعظيما للترغيب فيه نفسه مع قطع الناصر عن الفاعل أي يقيه واق أيّ واق كان- وأضافه إلى ما الشؤم كله منه فقال: {شح نفسه} فيفعل في ماله وجميع ما أمر به ما يطيقه مما أمر به موقنا به مطمئنا إليه حتى يرتفع عن قلبه الأخطار، ويتحرز عن رق المكونات، والشح: خلق باطن هو الداء العضال رأس الحية وكل فتنة ضلالة، والبخل فعل ظاهر ينشأ عن الشح، والنفس تارة تشح بترك الشهوة من المعاصي فتفعلها، وتارة بإعطاء الأعضاء في الطاعات فتتركها، وتارة بإنفاق المال، ومن فعل ما فرض عليه خرج عن الشح.
ولما كان الواقي إنما هو الله تعالى سبب عن وقايته قوله: {فأولئك} أي العالو الرتبة {هم} أي خاصة {المفلحون} أي الذين حازوا جميع المرادات بما اتقوا الله فيه من الكونيات من المال والولد والأهل والمشوشات من جميع القواطع.
ولما أمر ورهب من ضده على وجه أعم، رغب فيه تأكيدا لأمره لما فيه نم الصعوبة لاسيما في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فإن المال فيه كان في غاية العزة ولاسيما إن كان في لوازم النساء اللاتي افتتح الأمر بأن منهن أعداء ولاسيما إن كان في حال ظهور العداوة، فقال بيانا للإفلاح متلطفا في الاستدعاء بالتعبير بالقرض مشيرا إلى أنه على خلاف الطبع بأدة الشك: {إن تقرضوا الله} أي الملك الأعلى ذا الغنى المطلق المستجمع لجميع صفات الكمال بصرف المال وجميع قواكم التي جعلها فتنة لكم في طاعاته، ورغب في الإحسان فيه بالإخلاص وغيره فقال: {قرضا حسنا} أي على صفة الإخلاص والمبادرة ووضعه في أحسن مواضعه على أيسر الوجوه وأجملها وأهنأها وأعدلها، وأعظم الترغيب فيه بأن رتب عليه الربح في الدنيا والغفران في الآخرة فقال: {يضاعفه لكم} أي لأجلكم خاصة أقل ما يكون للواحد عشرا إلى ما لا يتناهى على حسب النيات، قال القشيري: يتوجه الخطاب بهذا على الأغنياء في بذل أموالهم وعلى الفُقراء في إخلاء أيامهم وأوقاتهم عن مراداتهم وإيثار مراد الحق على مراد أنفسهم، فالغني يقال له: آثر على مرادك في مالك وغيره، والفقير يقال له: آثر حكمي في نفسك وقلبك ووقتك.
ولما كان الإنسان لما له النقصان وإن اجتهد لا يبلغ جميع ما أمر به لأن الدين وإن كان يسيرا فهو متين «لن يشاده أحد إلا غلبه» قال: {ويغفر لكم} أي يوقع الغفران وهو محو ما فرط عينه وأثره لأجلكم ببركة الإنفاق، وقد تضمنت هاتان الجملتان جلب السرور ودفع الشرور، وذلك هو السعادة كلها.
ولما كان التقدير: فالله غفور رحيم، عطف عليه قوله: {والله} أي الذي لا يقاس عظمته بشيء {شكور} أي بليغ الشكر لمن يعطي لأجله ولو كان قليلا فيثيبه ثوابا جزيلا خارجا عن الحصر وهو ناظر إلى المضاعفة {حليم} لا يعاجل بالعقوبة على ذنب من الذنوب وإن عظم بل يمهل كثيرا طويلا ليتذكر العبد الإحسان مع العصيان فيتوب، ولا يهمل ولا يغتر بحلمه، فإن غضب الحليم لا يطاق، وهو راجع إلى الغفران.
ولما كان الحليم قد يتهم في حلمه بأن ينسب إلى الجهل بالذنب أو بمقداره قال: {عالم الغيب} وهو ما غاب عن الخلق كلهم فيشمل ما هو داخل القلب مما تؤثره الجبلة ولا علم لصاحب القلب به فضلا عن غيره.
ولما كان قد يظن أنه لا يلزم من علم ما غاب علم ما شهد، أو يظن أن العلم إنما يتعلق بالكليات، قال موضحا أن علمه بالعالمين بكل من الكليات والجزئيات قبل الكون وبعده على حد سواء: {والشهادة} وهو كل ما ظهر فكان بحيث يعلمه الخلق، وهذا الوصف داع إلى الإحسان من حيث إنه يوجب للمؤمن ترك ظاهر الاسم وباطنه وكل قصور وفتور وغفلة وتهاون فيعبد الله كأنه يراه.
ولما شمل ذلك كل ما غاب عن الخلق وما لم يغب عنهم فلم يبق إلا أن يتوهم أن تأخير العقوبة للعجز قال: {العزيز} أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء.
ولما كان ذلك قد يكون لأمر آخر لا يمدح عليه قال: {الحكيم} أي أنه ما أخره إلا لحكمة بالغة يعجز عن إدراكها الخلائق، وقد أقام الخلائق في طاعته بالجري تحت إرادته، وتارة يوافق ذلك أمره فيسمى طاعة.
وتارة يخالف فيسمى معصية، فمن أراد أتم نعمته عليه بالتوفيق للطاعة بموافقته أمره بإحاطة علمه والإتقان في التدبير ببالغ حكمته وإدامة ذلك وحفظه عن كل آفة بباهر عزته، ومن أراد منعه ذلك بذلك أيضا والكل تسبيح له سبحانه بإفادة أنه الواحد القهار، وقد أحاط أول الجمعة بهذه السورة أولها وآخرها، فجاءت هذه شارحة له وكاشفة عنه على وجه أفخم لأن مقصود هذه نتيجة مقصد تلك، وقد رجع- بالتنزه عن شوائب النقص والاختصاص بجميع صفات الكمال وشمول القدرة للخق وإحاطة العلم بأحوال الكافر والمؤمن- على افتتاحها حسن ختامها، وعلم علما ظاهرا جلالة انتظامها، وبداعة اتساق جميع آيها وبراعة التئامها- والله الموفق للصواب. اهـ.